لمحات تاريخية من حياة الشيخ عبد الله محمد الأمين شيخ الأمة العفرية


فهرس المحتويات فهرس المحتويات
1) مولد الشيخ ونشأته
2) رحلته لطلب العلم
 3) حياته العملية
4) أعماله الدعوية
5)عــــقــــيــــدة الــــشــــيــــخ
6) صور من أخلاقيات الشيخ
7) حلمه وتواضعه
 8) اقتصاد الشيخ:
9) صفاته الخَلقية
10) مرضه ووفاته
11) أســـــــــــــــــــــرة الــــــشـــــيـــــــــخ

 بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله الذي جعل العلماء نجومًا يهتدي بها، وعلامات يستدل بها، وجعلهم ورثة المصطفين الأخيار على مر الأزمان فأضاءوا الكون كله وأرشدوا ضاله وعلموا جاهله، وقصدهم كل من رام الهدى والفلاح، والصلاة والسلام علي خير السابقين واللاحقين وسيد الأولين والآخرين وعلي آله وأصحابه أولي المناقب الحسان والفضائل الجسام على مر الليالي والأيام. وبعد: فقد سألني بعض إخواني الذين أحسبهم من عباد الله الصالحين أن أؤرخ لعلم من أعلام النهضة الإسلامية في الحبشة في العصر الحديث ألا وهو شيخنا ووالدنا الإمام العلامة الشيخ عبد الله بن محمد الأمين الحميدي – رحمه الله تعالى – فأجبته إلى سؤاله على خجل شديد وذلك لما رأيت من قصوري وقلة بضاعتي عن القيام بمثل هذا العمل وتقديمه للقراء الكرام ولأن الكلمة أمانة في عنق صاحبها ولكوني نجلا للمترجم له، وعادة ما يطنب الأب أو الابن ويتجاوز الحدود في عرض سيرة ابنه أو أبيه ويجعلها شامخة شموخ الجبال ولكن أسندوا ذلك إلي بحكم قربي من الشيخ وكما قيل (أهل مكة أدرى بشعابها) فأرجو أن أوفق لأن أجمعها بصورة وسطية غير مفرطة ولا مفرّطة كما قيل (خير الأمور أوساطها)، ثم أقول إن العلماء هم نجوم الأرض وذخر الدهر فيستحقون منا أن نذكر محاسنهم وجهودهم وأن ننشر سيرتهم العطرة، كيف لا وهم بمنزلة الثريا من الأرض من سائر الناس، قال تعالى: {{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}} سورة المجادلة الآية :11] وهم ورثة الأنبياء والمرسلين في أداء الأمانة وحماية الشريعة، والعلم أفضل وأشرف ما يطلب ويسعى في تحصيله في هذه الحياة الدنيا، وحملته وناشروه يستحقون أن يذكروا بما هم أهله وبما بذلوا من الجهود الجبارة خدمة للإسلام والمسلمين. ثم إني أذكر هنا ما أعرفه شخصيا وما شهدته من شيخنا - رحمه الله- وما ذكره لي هو أو ما سمعته من بعض تلامذته ومحبيه متحريا الصواب – إن شاء الله تعالى- بدءا من مهده إلى لحده. هذا وكان شيخنا لا يحب أن يكتب عنه شيء أي من سيرته وكان دائمًا يقول ((وكفى بالله شهيدا)) وهذا يدلنا على تواضعه وهضم نفسه كما هو عادة العلماء العاملين. وسميت هذه الرسالة ( لمحات تاريخية من حياة الشيخ عبد الله محمد الأمين شيخ الأمة العفرية) أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لكل خير وأن يسد د خطانا ويثبتنا على الحق وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل إنه خير مسئول وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. المؤلف/ يحي بن عبد الله بن محمد الأمين (أركودي منطقة عفر) 3/7/1433هـ الموافق 2/5/2012م الجوال:
0914674597
 مولد الشيخ ونشأته: ولد العلامة الكبير والمدرس الشهير شيخ المشايخ في مكانه وزمانه الإمام العلامة الشيخ عبد الله بن الحاج محمد الأمين بن حميد بن عبد الله بن فردو بن صالح بن حيسما بن سُم موسى بن عاقلي حُمَّد بن حسن بن داود بن إبراهيم الأحمر بن علي بن إبراهيم بيدل الحميدي العفري - رحمه الله -، من القومية العفرية البيدلي، من قبيلة بيدل ذات الجذور العربية حسب المؤرخين، وهي إحدى قبائل (ملحن معم برا) السبع المعروفة، وهم أولاد الشيخ فقيه محمد بن سيد عيسى بن سخي الله وكانوا يسكنون بلدة(زلا)على بعد70كيلو من مدينة مصوع الأرترية حسب ما أفادني به بعضهم ؛ولد الشيخ رحمه الله في قرية (دادربا) وهي قرية تقع على مشارف بلاد (رايا) في ولاية تجراي بإثيوبيا عام 1355هـ الموافق لعام 1935م لأسرة متدينة صالحة فأبوه الحاج محمد الأمين – رحمه الله- كان فقيها في المذهب الشافعي زاهدا عابدا، وأمه السيدة فاطمة - رحمها الله- كانت بنت الإمام الكبير الشيخ عبد الله بن الحاج محمد نور الأرغلي الذي جلس للتدريس قرابة خمسين عاما، وكان بحرا في التفسير والفقه والنحو والصرف وعلم البلاغة والبيان وشيخه هو الشيخ عبد الصمد بن جمال الدين محمد الأني رحم الله الجميع، وكان الشيخ عبد الله الأرغلي يهاجر من مكان لآخر يفر بدينه من الفتن ولا أملك معلومات كافية عن حياته سوى هذا. ولنرجع إلى مقصودنا وسمته والدته بسم بجده المذكور فنشأ شيخنا وترعرع في كنف هذه الأسرة، فابتدأ لفظ القرآن على يد والدته السيدة فاطمة وكانت قارئة للقرآن الكريم، وانتقل بعد ذلك ليقرأ لفظ القرآن على الشيخ محمد عرب آخر مقرئ القرآن في قريته، وأحد تلامذة جده فكان يقرأ عليه، شأنه شأن زملائه الأطفال ثم هاجروا من قرية دادربا إلى أرغلي بسبب الفوضى التي حصلت بسبب طرد الإنجليز للاحتلال الإيطالي قبل يستتبّ الأمر للأمبراطور هيلي سلاسي فكانت اللصوص تأتيهم ليلا فتعيث في الأرض فسادا، فبسبب ذلك هاجروا إلى أرغلي، هكذا ذكر لي شيخنا، ويذكر أن تلك الفوضى دامت سنتين. ثم قرأ شيخنا لفظ القرآن هنا وهناك أي على قراء عديدين كهيئة التطفل إذ أنه لم يكن في قرية أرغلي مقرئ جلس للإقراء فكان شيخنا يجلس إلى هذا وإلى هذا حتى ختم لفظ القرآن ثم رحل وشمر لطلب العلم وذلك في سن المراهقة تقريبا.
 رحلته لطلب العلم: لما كانت نفس شيخنا سامية وهمته عالية وفطرته سليمة فكر الرحلة لطلب العلم في الوقت الذي كان طلب العلم غير مرغوب فيه لأنه آن ذاك في محيطه العالم هو الذي قرأ لفظ القرآن وأتقنه وحفظ المناظم ويلقيها في المجالس والحفلات ليأكل به فقط، وهذا النوع من السلوك لا تبغيه إلا النفوس الهابطة الشهوانية، فرحل شيخنا رحمه الله إلى مدينة (مقيلي) قلب تجراي إلى الشيخ الحاج محمد صادق عاقس وكان ابن خالة والده فمكث عنده قليلا حتى قرأ كتيب سفينة الإبتدائ في الفقه الشافعي، ثم رجع إلى بلاده فمكث يسيرا ثم اشتاق لطلب العلم فرحل إلى بلاد رايا بجنوب تجراي حيث مركز العلم والعلماء فالتحق فيها بحلقة العلامة الشيخ محمد طيب بن الحاج حسين رحمه الله – حيث يعتبر شيخه الأول في بلاد رايا فلازمه على رغم صعوبات ومشكل واجهته في طلب العلم حيث أنه كان لوحده من العفريين ولم يكن له زملاء من جنسه من العفر وكان هناك تمييز عنصري ضد العفر حيث كانوا في أول الأمر أربعة من العفريين فلما رأى زملاءه العنصرية في الناس غادروا وبقي هناك وحيدا وكان عنده رحابة الصدر وكظم الغيظ فقرأ على هذا الشيخ بعض كتب الشافعية الابتدائية كمتن أبي شجاع وبافضل وغيرهما، ثم انتقل من عنده إلى الشيخ محمد تقي إبراهيم رمضان في قرية (دالتّي) ليقرأ عليه الفقه الحنفي وكان هذا الشيخ فقيها بارعا في الفقه الحنفي متمكنا فيه وسبب انتقاله إلى مذهب الإمام الأعظم فيما أخبرني شيخنا – رحمه الله – أن المفتي محمد سراج أمر بتمييز كتبه عن كتب الآخرين، فذهب شيخنا إلى مكتبته فاطلع على ما فيها من الكتب فإذا فيها كتب كثيرة تنسب إلى جده الشيخ عبد الله الأرغلي- أي ملكا- الذي سبق أن ذكرناه في هذه الرسالة، وجل الكتب من كتب الحنفية فجمعها وكان سبب اندماج كتب جده بكتب المفتي أنه لما مات جده وخلف مكتبة ضخمة طار بكتبه كل مطير من طلبة العلم فأودعوها مكتبة المفتي، وكان جده حنفي المذهب فخلف وقر جمل من كتب الحنفية فكره أن تضيع كتب جده فلذلك انتقل من الشافعية فجمع الله به شمل كتب جده، وكان جده رحمه الله ما خلف وارثا يرثه في مهمته ويجمع شمل كتبه، وكان لديه ولد صالح بحر في العلم مثل والده وهو الشيخ محمد طيب بن الشيخ عبد الله الأرغلي فتوفي قبل والده ، وكان وحيدا بين الأخوات حتى جاء الله بحفيده أعني شيخنا – رحمه الله – ويذكر (أنه لما تزوج الشيخ عبد الله الأرغلي بزوجة ثانية غارت الأولى أعني جدة الوالد رحمه الله فأرسل الشيخ الأرغلي إليها أحد طلبته يقول لها لا تغاري على زوجتي فإن أبناء ابنتك فاطمة سيرثون كتبي ويقومون بمهمتي)، وهذا من العجائب أن يكشف الله لعبد من عباده ما سيحدث بعد عشرات السنين - فسبحان الله- فكان كما قال، فجاء هذا العبقري وإخوته فرفعوا اسم جدهم بعد أن كان خامدا بموته وصار يشار إليهم بالبنان وهذا من كرامات الأولياء التي يؤمن بها أهل السنة والجماعة والباقية إلى يوم القيامة. ثم رجعنا إلى القصة فقرأ شيخنا - رحمه الله – على الشيخ الدالتي مختصرات الفقه الحنفي على الصفة التقليدية بدءا من كتاب شروط الصلاة إلى كتاب الكنز، وكان في ذلك الوقت ليس هناك ما من الله به علينا في هذا الزمان من كتب العقيدة والحديث النبوي والتفسير وإنما كان الناس يشتغلون في تعلم كتب الفقه والتفاني فيها حتى قال أحدهم ( بعد القدوري عمامة وبعد العمامة إمامة)، يعني أنك إذا قرأت مختصر أبي الحسن القدوري في الفقه الحنفي ما عليك إلا أن تتعمم وتؤم الناس في الصلاة وهذه هي الغاية المرغوبة بزعمه. ثم رجع شيخنا - رحمه الله – من عند الشيخ تقي رمضان إلى شيخه الأول علامة (رايا) آنذك، الشيخ محمد طيب بن الحاج حسين الدانسي في (قرية دانسى) إلى الجنوب الغربي من بلاد (رايا) فقرأ عليه كتب النحو والصرف متبعا بذلك طريقة التدريس في الحبشة في النحو والصرف، فقرأ عليه إعراب الآجرومية وملحة الإعراب وشرحها كشف النقاب عن مخدرات ملحة الإعراب وألفية ابن مالك والفواكه الجنية شرح متممة الآجرومية ومجموعة الصرف إلا الشافية، هكذا ذكره شيخنا وكان شيخه هذا بحرا في علم اللغة العربية والبلاغة والفقه الشافعي، ولذلك لازمه وثابر عليه حتى ملأ وعائه من بحره وكان شيخنا يذكر عنه أنه قال ( لو احترقت كتب الفقه كلها لأعدتها بابا بابا وفصلا فصلا)؛ وذلك غاية في الإتقان والحفظ وكان إذا وجد نشاطا في نفسه يقول لتلميذه أعني شيخنا يقول له ( سل وأنا صرفي ونحوي ومنطقي وعروضي) على سبيل المزاح والمداعبة لا على سبيل الفخر والإعجاب بالنفس، هكذا فهمت من كلام شيخنا – رحمه الله – وكان الوالد – رحمه الله- أثناء مقامه عند الشيخ محمد طيب الدانسي ينتظر الشيخ المفتي محمد سراج الجبرتي رحمه الله – حتى يعود إلى (رايا) حيث كان في قبضة نظام هيلي سلاسي قيد الإقامة الجبرية في أديس أبابا أولا ثم في مدينة مقلي ثانيا في تجراي أعتقل بسبب اتهامات وجهت إليه لأنه عادة ما يستهدف العلماء من قبل الأنظمة عبر التاريخ الإسلامي لعرقلة أعمالهم الدعوية والصد عن سبيل الله، وذكر شيخنا( أن وشاة وشو المفتي بأنه يعمل لقلب نظام الحكم بمساعدة خارجية من الدول الكبرى فيما يسمى بمجلس الأمن لإعادة الاحتلال الايطالي إلى إثيوبا ومن ثم إقامة دولة إسلامية وهذا ما كان الشيخ براء منه ) لكن أن تحسد خير من أن تخمد وكان الشيخ محمد سراج آية في فنون العلوم لا سيما في الحديث النبوي سندا ومتنا والتفسير، وكان قد جاب المنطقة العربية شرقا وغربا لطلب العلم ولقاء العلماء فسافر إلى القاهرة والقدس الشريف ودمشق الشام وبيروت وبغداد إضافة إلى الحرمين الشريفين، فتضلع من العلم هناك ومكث في البلاد العربية نحو تسع سنين، ثم رجع إلى بلاده واشتهر بالمفتي حتى إنه إذا ذكر المفتي لا ينصرف الذهن إلى غيره، وكان شخنا – رحمه الله- يذكر لنا أن المفتي محمد سراج كان مثالا يحتذي به في شتى المجالات في العلم والأخلاق والورع والنصح للمسلمين والعبادة لربه. وأنه كان يكره البدع ولا يحضر احتفالات المولد النبوي إلا للموعظة والإرشاد ثم ينصرف ولا يأكل من ذبائحهم وطعامهم شيئا إلا أنه كان لا يستطيع إظهار الإنكار لهذه البدع خوفا على حياته، وسألت الوالد – رحمه الله – عن رسالة ( المنح الغيبية في الرد على الوهابية ) التي تنسب إلى المفتي فقال شيخنا (حاشاه وكلاه أن يكتب مثل هذه الرسالة الهابطة نحن صاحبناه كثيرا ونعرف أحواله وتوجهاته فلم نر ولم نسمع من ذلك شيئا وإنما تنسب إليه زورا اهـ. قلت ولا ينكر أحد كون المفتي محمد سراج من كبار علماء الصوفية كما يعرف الجميع إلا أنا نتحدث الآن عن علمه وورعه وأخلاقه وما قام به من أعمال جليلة للإسلام. هذا وذكر الشيخ محمد بن المفتي محمد سراج في رسالته المسماة (النور الوهاج بترجمة المفتي محمد سراج). أن المفتي رحمه الله ولد في عام 1320هـ وتوفي في عام 1392هـ فمن أراد المزيد فليراجعها. ولنرجع إلى مقصودنا، فلما عاد المفتي محمد سراج أنار الله قبره من معتقله قصده الناس من مناطق تنقطع بها أعناق المطي ومنهم شيخنا الشيخ عبد الله وكان من صغار الطلبة آنذاك فاشترك مع كبار الطلبة في قراءة الحديث فاستمع عليه كتب الستة كلها بقراءة أحد الطلبة على الشيخ ويستمع الباقون وهكذا حتى أنهو الكتب الستة وكانوا يقرئون ثماني ورقات يوميا لانتهاز الفرصة الموجودة إذ أن الشيخ المفتي ملاحق من قبل الحكومة آنذاك كما سبق، فكان يذهب به إلى معتقله في مدينة مقلي بين فترة وأخرى فلذلك كانوا يكثرون من القراءة عليه لانتهاز الفرصة. ثم بدأ شيخنا رحمه الله ترجمة القرآن باللغة المحلية أي لغة تجراي وكان يتقنها رغم كونه عفريا على شيخه المفتي محمد سراج حتى وصل سورة الإسراء ثم ذهب الشيخ إلى معتقله، فأكمل شيخنا البقية على شيخه الأول الشيخ محمد طيب بن الحاج حسين – رحمه الله- ثم أعاد ترجمة القرآن عليه كاملا بعد موت المفتي طلبا للإتقان حيث أنه كلام رب العالمين. وقرأ رحمه الله على المفتي محمد سراج (متن السلم) في علم المنطق ومتن الجزرية، في علم التجويد، ولم يكمله عليه وأثناء دراسته على العلامة محمد سراج وإقامته عنده كان يتلقى دروسا أخرى من كبار العلماء الذين كانوا يتواجدون هناك أي عند المفتي لقراءة الحديث النبوي،أمثال الشيخ سيد سلول رحمه الله وغيره وقيل إنهم كانوا يوازون الشيخ المفتي في سائر العلوم إلا أنهم كانوا عيالا عليه في علم الحديث رواية ودراية وجلهم كانوا من القومية الأورمية، فقرأ شيخنا هناك على الشيخ ذاكر البورني كتاب الدر المختار وهو كتاب كبير ذوا قدر في المذهب الحنفي إلا أنه لم يكمله عليه بسبب افتراقهما قبل الإتمام، وقرأ شيخنا رحمه الله كتبا أخرى متفرقة على مشايخ متعددين في شتى العلوم في ظروف اقتصادية صعبة للغاية حاله وحال زملائه حال أصحاب الصفة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤون إلى أهل ولا إلى مال وكان رحمه الله ربما صاحب المفتي محمد سراج إلى (مقلي) حيث يقيم قيد الإقامة الجبرية كما سبق ليقرأ عليه هناك حيث كان يحبه حبا شديدا لما لدى المفتي من علم وتدين ولين جانب وتواضع وكان شيخنا لا يعقد مجلس علم إلا تكلم فيه وفي أخلاقه وفي وعظه ويقول تأثرت به من جهة الأخلاق وقال دخلت عليه يوما وهو في خلوته ولم أسلم عليه وكان من العادة هناك أن لا يسلموا على الكبراء حين يدخلون عليهم فقال المفتي رحمه الله ( يا عبد الله لماذا ما سلمت أخرج فسلم ثم اجلس فخرجت فسلمت وجلست وكان يقص منه قصصا كثيرة عجيبة ولسنا بصدد سردها كلها هنا
. حياته العملية: وهكذا طوينا صفحة حياة شيخنا الإمام عبد الله العفري العلمية وها نحن نشرع بفتح صفحة حياته العملية المشرقة المباركة، فنقول وبالله التوفيق لما حط شيخنا رحاله عن طلب العلم بسبب وفاة شيخه الشيخ محمد سراج المفتي وانتهت فترة الطلب التي استمرت نحو عشرين عاما تقريبا تفرغ للتدريس وبدأ يسقي الناس من سقائه كما استقى من أسقية أهل العلم. وكان آن ذاك شابا في الثلاثينيات من عمره وكان مركزه في قرية (هدألغا) إلى الجنوب الشرقي من رايا وهي قرية صغيرة تضم في جنباتها نحو 25 عائلة فقصده الناس من كل فج عميق فكان يلقي دروسا في فنون العلوم درسا في التفسير ودرسا في الحديث النبوي ودرسا في العقيدة ودرسا في الفقه ودرسا في النحو والصرف ودرسا في التجويد، بدون كلل ولا ملل وكان لا يجد فرصة النوم والاستراحة في النهار فكان يدرس من طلوع الشمس إلى قبيل غروبها إلا فترات يسيرة يستريح فيها ويتناول الطعام والشراب وكان يأكل العلقة من الطعام ولم يكن له يوم عطلة إلا يوم الجمعة حتى كان يدرس في رمضان وهو صائم وكان يجمع بين ثلاثة أمور التدريس والدعوة والإصلاح بين الناس في مسائل اجتماعية، فخرج المآت من الطلبة في دفعات كثيرة ومن أبرز طلبته الذين يحضرونني في هذا المقام ولا أستطيع حصرهم ولذلك من أهملت ذكره هنا من طلبته فلا يظنن أن هذا استخفاف مني به وإنما هذا على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، فمن أبرز طلبته الذين تخرجوا على يدي شيخنا الشيخ محمد زينو عداغسوا الرايي رحمه الله وكان رفيقه في الحل والترحال وساعده الأيمن ولازمه نحو ثلاثين عاما رحمه الله وكانت تظهر عليه أخلاقه شيخه الطيبة ويعتبر من الطبقة الأولى من طلاب الشيخ وتوفي الشيخ محمد زينو بشكل مفاجئ فبعد أن صلى بالناس صلاة الجمعة في أحد مساجد رايا اضطجع في المسجد فكان العهد به أي توفي من ساعته وهو صائم في سابع رمضان سنة 1427هـ فلما سمع شيخنا نبأ وفاته بكى بكاء شديدا لم أره يبكي على أحد بكائه على تلميذه محمد وقال (أشهد له بالتقوى ولا أشهد له بالجنة)، ومن طلبته الشيخ أحمد بن محمد سلا الأووي والشيخ عبد الجليل دردر القبني والشيخ محمد خضر صالح الوسمي وصهر الشيخ زوج ابنته ( دسته) الشيخ محمد عرب شريف الرايي وصهره زوج ابنته (فاطمة) الشيخ خضر إبراهيم موسى البرعرسي وشقيق الشيخ الأصغر الشيخ محمد جوهر بن محمد الأمين - رحمه الله- وشقيقه الأصغر كذلك الشيخ محمد نور محمد الأمين، والداعية الإسلامي المعروف الشيخ خضر نور درسة الأبعالي وصهر الشيخ زوج ابنته (آمنة) الشيخ صالح الحاج محمد نور ياكم الرايي رحمه الله والشيخ إدريس نقس الأبعالي قاضي المنطقة الشمالية والشيخ محمد دوى لبدلي الأبعالي قاضي مديرية أبعالا والشيخ مختار سلا الكالي والشيخ محمد أمين محمد الكالي والشيخ أحمد إبراهيم أسمر الكالي والشيخ مصطفى طويل الحشنغي رحمه الله والشيخ صالح درحنو العابدي – رحمه الله - والشيخ علي حمّدا الأوي والشيخ علي حسن آدم رحمه الله والشيخ خليفة بن الحاج محمد نورالدعري رحمه الله والشيخ محمد نور علاغس الأبعالي والشيخ أحمدعليو الكالي والشيخ محمد ياسين علي الدرمي رحمه الله وأخوه الشيخ أحمد ياسين علي الأوي والشيخ صالح عليو محمد الأوي المقيم في جيبوتي والشيخ إبراهيم يوسف الأووي المقيم أيضا في جيبوتي والشيخ محمد أول أيداحس البرعرسي وزميلي المجتهد الشيخ صالح عتبان ركبي الأوسي مؤذن مسجد الشيخ لازمت أنا وهو الشيخ نحو أثني عشر عاما ودرسنا معا قبل أن يغادر للتدريس في مدينة ملي والشيخ حيدر صالح غبدو الدرمي مدير جمعية فردى والشيخ علي عبد برعد البرعرسي والشيخ علي صفا البرحلي والشيخ يحي إبراهيم أولييتو الولعي والشيخ محمد إبراهيم أسمر رحمه الله والشيخ أحمد إسماعيل الأبعالي والشيخ حسين علي ريبسا وخلائق كثيرون لا يحصرون من الأمة العفرية والإسلامية من المتقدمين ومن زملائنا المتأخرين ممن يصعب حصرهم خاصة من المناطق الشمالية والوسطى في وطننا العفري الإسلامي .
 أعماله الدعوية: اعلم أيها الناظر أن الناس كانوا في بلاد رايا كما في سائر الحبشة تائهين في عقائدهم ومقلدين لآبائهم ويعملون أعمالا منافية لرسالة الإسلام الخالدة التالدة التي تتمثل في إخلاص العبادة لله تعالى دون من سواه سواء كانت قولية أو فعلية وإن كانوا يدعون الصلاح والتدين بزعمهم فكانوا يعتقدون في مشايخهم ومن يسمونهم بالأولياء ما لا يجوز اعتقاده في نبي مرسل ولا ملك مقرب من أنهم يتصرفون في الكون أحياء وأمواتا وأن لهم ميزة يستطيعون بها كشف البلوى والشكوى وإنزال النفع لمن شاءوا والضر على من شاءوا وأن الله وضع في أيديهم تدبير الكون كيفما شاءوا وأنهم من أهل الجنة قطعا وحتما إلى غير ذلك من الاعتقادات الباطلة الزائفة، فكانوا يطوفون بأضرحتهم ويسجدون لها ويدعونهم علهم يركبون سفينتهم وينجون معهم بزعمهم وينذرون لهم ويقولون من نذر للضريح الفلاني فله كذا وأن من زار الضريح الفلاني وطاف به فله كذا ويبتدعون بدعا أخرى لا تعد ولا تحصى منها: الاحتفالات بالمولد النبوي وليلة النصف من شعبان الذي كانوا يسمونه ليلة (ياحنان) وبدعة الذبح على الميت عند موته صدقة له بزعمهم وطلبا للذكر والفخر إلى آخره. فكان شيخنا من أشد المنكرين لهذه الشركيات والبدع بل من أولهم كان أولا ينكر بقلبه ولا يستطيع أن يحرك ساكنا لحداثة سنه ولكون شيخه المفتي محمد سراج الجبرتي في قيد الحياة ولم يستطع أن يعلي صوته فوق صوت شيخه وكان شيخه يلتزم الصمت ولا يتكلم في شيء من هذا رغم غزارة علمه وتبحره ولعل ذلك والله أعلم اليأس من الناس وأنهم لا يمكن أن يتركوا ما ألفوه منذ الصغر، وكان شيخنا رحمه الله يفعل شيئا من هذه البدع مع محيطه كالاحتفال بالمولد النبوي وزيارة الأضرحة وقصدها من بعيد من غير دعوتها لأن القرين بالقرين يقتدي ولأنه في أول الأمر كان يميل إلى التصوف فكان على الطريقة الماتريدية وقيل إنه كان يقلل من الأكل والشرب والنوم على عادة الصوفية ويسمون ذلك بالرياضة، ومع مرور الوقت واتضاح الحق المبين تحول الشيخ إلى السلفية تلقائيا من غير أن يدعوه إلى ذلك أحد وقبل أن يجد شيئا من كتب أئمة الدعوة السلفية ويطلع عليها ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل لها من بعده وهو العزيز الحكيم) سورة فاطر الآية:2] وأنكر شيخنا وأعلن إنكاره وأشهره وتعاقد وتعاهد مع أحد عشر من كبار طلابه على الدعوة إلى دين الله الخالص ومنابذة القوم وأن لا يتعصبوا للآراء الفقهية مع وجود الدليل من آية محكمة أو خبر متواتر أو إجماع وأن يتبرؤوا من هذه البدع والشركيات والخزعبلات وأهلها وأن يحرموا على أنفسهم شجرة القاة الخبيثة، وكان الشيخ آنذاك يتناول شيئا منها قليلا في الحفلات الطارئة والمناسبات لا على سبيل الإدمان كما يحدث في زماننا من اصطياد شجرة القاة للمسلمين اصطيادا تاما ووقعوا فريسة له نسأل الله السلامة والعافية وأن لا يتناولوا طعام وألبان أبقار رؤساء الغزو الذين كانوا يغزون المسلمين فيسبون ذراريهم ومواشيهم ظلما وعدوانا وهؤلاء كانوا يدعون الإسلام، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم وأن يقدموا مصلحة الدين على مصلحة الدنيا فقام الوالد رحمه الله على الملأ فنبههم إلى أن ما هم عليه من الاعتقادات الفاسدة والبدع المفتعلة ليست من الدين في شيء وما أنزل الله به من سلطان وإنما هم قلدوا عليها آباءهم فشاخ عليها الكبير وشب عليها الصغير وإنما الحق هو مذهب السلف المبني على الأصلين والإجماع وإن رغمت أنوف أهل الباطل، فأقنع على هذه الحق أقاربه وذويه في قريته (هدألغا)وفي قرية ( غَسُبَّرا) في (ريا) حيث أخوال أمه متوفرون هناك، ووقع ذلك على سائر الناس كالصاعقة واستهجنوه لأنهم لم يسمعوا من قبل من يدعو إلى عدم الذهاب إلى أصحاب الأضرحة لدعائهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات ولم يسمعوا من يقول إن إقامة الاحتفالات بمناسبة المولد النبوي غير مشروع وإن ما يسمى بالمنظومة التي كانوا يرددون في هذه المناسبة وفي غيرها وضرب الطبول عليها بدعة لا أصل لها ولم يسمعوا من يقول إن إقامة المآتم وذبح الحيوانات فيها وإطعام الطعام غير مشروع ولم يسمعوا من يقول إن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة وبصيغ محدثة بدعة، فلذلك وقفوا في وجه دعوته وعرقلوها وبدعوه أي (نسبوه إلى البدعة) هو نفسه إلا أن العرقية اللاكحنية التي ينتمي إليها الشيخ سرعان ما استجابت لدعوته وأيدته في ذلك إلا قلة قليلة منهم. وأقام شيخنا رحمه الله عددا من شعائر الإسلام التي لم تكن هناك مثل الجمعة وصلاة العيدين وهذه الشعائر ما كانت تقام هناك وذلك بسبب الآراء الفقهية التي تضع شروطا معينة لإقامة مثل هذه الشعائر، وذلك مثل اشتراط المصر والسلطان أو نائبه والإذن العام والعدد إلى آخره من الشروط التي لا تتوفر هناك فتجاهل شيخنا هذه الشروط الفقهية فأقام هذه الشعائر- على الرغم من معارضة بعض من ينتسب إلى الفقهاء-- في قريته ( هدألغا ) ودعا الناس لصلاة الجمعة فلباه المسلمون وخرج لصلاة العيد إلى مكان معد لذلك ثم بعد ذلك بفترة أقيمت جمعة ثانية بأمره في قرية أخوال والدته(غسبرا ) وذلك لما تخرج لديه عدد من طلبة العلم من تلك القرية وهم من زملائنا مثل الشيخ محمد عبد الله غرى والشيخ صالح نور فأرسل والشيخ عبد الله برنت والشيخ زكي الطيب والشيخ موسى أحمد برنت ولو اعتبرت الشروط التي وضعها الفقهاء في تلك المناطق لما أقيمت هذه الشعائر إلى يوم القيامة، فأقام الله هذه الشعائر على يد شيخنا –رحمه الله-. وذكر لي المترجم له رحمه الله أنه لما أظهر الدعوة السلفية زعم المبتدعة في رايا أنه اقتبس هذ التوجه من الشيخ محمد حياة العفري رحمه الله فكان شيخنا يضحك من قولهم هذا ويقول والله ما قابلت الشيخ محمد حياة إلا مرتين في حياتي قابلته مفاجأة من غير قصد ولم أتمكن حتى من المحادثة معه فضلا عن أن أقتبس منه شيئا، قابلته مرة في قرية (غوغولو ) في رايا حيث جاء به المبتدعة للمناظرة ليعرضوا عليه شبههم وباطلهم أعني جاوا بالشيخ محمد حياة إلى هناك، وقابلته مرة في مدينة (ماجو) بصورة مفاجأة أيضا حيث أخبرني أحد الغوغوليين أن قضية الشيخ محمد حياة تنظر اليوم في المحكمة وقال لي أحضر معنا لترى ما سيحدث، فذهبت معه وقابلته، وكنت عابرا من ( ماجو) قادما من أبعالا ولم يكن لي علم بهذا انتهى. والشيخ محمد حياة هذا هو والد الشيخ محمد أول بن الشيخ محمد حياة قاضي المحكمة الشرعية سابقا في إقليم عفر وأحد رجالات الدعوة ويعتبر الشيخ محمد حياة بن ريبا العفري أول من أدخل مذهب السلف إلى منطقة عفر فلقي من الناس ما لقي من أذى جسدي ونفسي ولعن وسب وشتم. وذكر الشيخ محمد أول بن الشيخ محمد حياة حفظه الله في رسالة ترجمته لوالده الشيخ محمد حياة ذكر أنه من مواليد 1345هـ، وذكر أنه تجول لطلب العلم داخل الحبشة وتعلم قدرا كبيرا من العلوم الشرعية ثم رحل إلى الحجاز عن طريق البحر الأحمر وتلقى هناك دروسا كثيرة من علماء الحجاز، ثم بعد ذلك رام بلاده الحبشة راجعا من نفس الطريق الذي أتى منه إلى الحجاز حاملا معه الدعوة السلفية، فعند ذلك لقي من الناس ما لقي ومن السلطات في بلاد (رايا) وذكر أنه سجن في مدينة (ظرظر) ثم في مدينة (ماجو) ثم في (مقلي) وتوفي في عام 1395هـ بعد أن شاء الله أن تلدغه حية فكان فيها موته رحمه الله وجزاه الله خير الجزاء وأسكنه فسيح جنانه آمين. ومن أراد المزيد من سيرة هذا الشيخ العبقري فليرجع إلى هذه الرسالة وعنوانها هو ( صفحات من حياة فضيلة الشيخ محمد حياة العفري). وقد سمعت الوالد رحمه الله يذكر أنه لما لدغ الشيخ محمد حياة ومات زعم المبتدعة والمبطلون في ( رايا) أنهم قتلوه وتخلصوا منه بأن سلطوا عليه حية فلدغته فخلصتهم منه، وأيضا نفعل بتوءمه -يعنون به شيخنا - فنسلط عليه شيئا يهلكه وهو ما لم يتحقق لهم حتى نشر شيخنا التوحيد والعلم وصنع أجيالا كثيرة وأهّلهم بحول الله وقوته لأن يكونوا حملة شريعة ودين، ثم اختاره الله عزوجل إلى جواره رحمه الله. واستمر شيخنا هو وطلابه بنشر دعوة التوحيد الخالص الطري حتى لقو من الناس ما لقو من اللعن والسب والشتم والتكفير حتى كان تلامذته في أول الأمر يخفون هويتهم ولا يفصحون عن أنهم طلبة الشيخ عبد الله الحميدي خوفا من إيذائهم وتآمر الناس على الشيخ بالقتل مرة عن طريق أشخاص مستأجرين على حساب حياته ومرة عن طريق الوشي إلى السلطات المحلية، وذكر لنا شيخنا مرة ونحن في ثنايا الدرس في مكتبته قائلا ((سافرت من قريتي إلى قرية (دانسا) في (رايا) وكان له أسرة فيها ومعي بعض التلامذة فأرصد المبتدعة في الطريق الذي نسلكه رجلا بغرض الشر ومع الرجل سلاح فرأيته -وأنا راكب بغلة - رجلا ضخما فتقدمنا في السير نحوه وتوكلنا على الله فو الله ما برح الرجل مكانه جالسا وألقى الله عليه الرعب حتى توارينا عنه)) انتهى. وذكر لي بعض طلبته أن الشيخ لما رجع من (دانسا) خالف الطريق فرجع من طريق آخر غير الطريق الذي سلكها في الذهاب فأخبروا بعد ذلك أن الأعداء أرصدوا له اللصوص في الطريق التي لم يسلكها كما فعلوا في المرة السابقة، فنجاه الله بالحكمة فخالف الطريق قبل أن يسمع بذلك. وهكذا أوذي شيخنا في الله تبارك وتعالى وتواطأ أعداه في قتله مع سلطات المنطقة وبنوا عليه كثيرا مما هو براء منه وكان من بين أعدائه شيخه السابق الشيخ محمد تقي إبراهيم رمضان وهو شيخه في الفقه كما مر إلا أنه لما برع المترجم له وشاع صيته انقلب عليه وصار من أعدائه وكذلك فعل الشيخ محمد بن المفتي محمد سراج الجبرتي وذكر أنهم كانوا سبعة رئيسهم جنيد قاضي محافظة (ماجو) ومن ورائهم أتباعهم، فتواطأ هؤلاء عليه مع السلطات لتضخيم شأنه ومن ثم إعدامه وذلك إبان حقبة نظام درغي الشيوعي بزعامة المقدم ( منغستو هيلي ميرم ) وأرسل إليه جنيد أن يأتي للمناظرة في قرية (هجيرى) في غرب (رايا) وكانت هذه القرية في السابق مركز العلم والعلماء قبل أن تؤول إلى ما آلت إليه الآن فوافق الشيخ على ذلك طلبا في إيضاح الحق وإزهاق الباطل. مناظرة الشيخ مع جنيد قاضي (ماجو) : أيها القارئ الكريم لقد سعيت جاهدا أن أجمع معلومات كافية عن المناظرة التي حدثت بين شيخنا الإمام عبد الله الحميدي وبين جنيد قاضي (ماجو) وحاولت الاتصال ببعض من شهد تلك الواقعة و قابلت بعضهم ورغم تقادم الزمان على حدوث تلك الحادثة إلا أن ذاكرة الحضور لم تخنهم بسبب أهمية تلك المناظرة وكانت الفيصل بين الحق والباطل، فوقفت على جوانب عدة منها وعلى نصوص الحوار الذي دار بين شيخنا وجنيد حسب النقل لكن هناك شك على عدد المسائل التي تم النقاش عليها وإثارتها هل هي ثمان أو تسع. فأقول: وبالله التوفيق، لما أرسل جنيد إلى شيخنا يدعوه للحضور للمناظرة في قرية(هجيرى) ولبّا تلك الدعوة وحان موعدها طلب من أنصاره ومؤيديه أن لا يخرجوا معه إلا القليل منهم وأن لا يخرج حدثاء الأسنان من التلامذة وغيرهم وأن لا يأخذوا السلاح معهم، وقال إنما هذه مناظرة علمية بحتة ولا تحتاج إلى مثل هذه الأعداد الكبيرة من الناس، ولكن الناس رفضت إلا الذهاب مع الشيخ خوفا على حياته من قبل عصابات القتل المجرمة في نظام درغي الذين يستقوي بهم جنيد وأتباعه، فأخبرني الشيخ الحاج طاهر بن كاسا البرعرسي وهو من كبار تلامذة الشيخ وأحد الحضور لتلك الواقعة أخبرني أنهم خرجوا مع الشيخ وهم تسعة وأربعون شخصا وهم مسلحون بالأسلحة الحديثة وبالسكاكين وأخفوها تحت آباطهم و بينهم والد الشيخ الحاج محمد الأمين بن حميد وشقيقاه الأصغران محمد جوهر ومحمد نور وابن أخت الشيخ الأرغلي الحاج محمد الأمين إبراهيم وآخرون كثر من أقارب وتلامذة وأصدقاء الشيخ. خرجوا حتى بلغوا قرية هجيرى بعد ما اشتد النهار فإذا جنيد قد حبش الأحباش أي - جمع أخلاطا من الناس- وإذا هو قد جاء بفرع محافظة (ماجو) من قواة الأمن بأعداد كبيرة وعدد من أفراد الشرطة يستقلون ست سيارات كما أفادني الشيخ طاهر البرعرسي – وأكد آخرون من الحضور أنهم لم يشاهدوا السيارات - وقد أحاطوا بساحات المسجد الذي تجري فيه المناظرة وكأن الأمر تحضير للقتال والمعركة المفترضة، فلما دخلوا المسجد وأخذ الناس مآخذهم قبل صلاة الظهر قام الحاج محمد صادق بن الشيخ عبد الرحمن الأني رحمه الله في الملأ فقال: إننا اجتمعنا اليوم لغير ما بأس اجتمعنا لبحث مسائل علمية وصلتنا من قبل الشيخ عبد الله فنطلب من علمائنا أن يتحاوروا بهدوء وأن يستمع بعضهم لبعض ونبدأ البحث إنشاء الله بعد الغداء أي ( بعد صلاة الظهر ) ثم رفعت الجلسة وهذا الشيخ أعني الحاج محمد صادق هو زعيم القرية الذي اجتمع الناس عليه ثم طالته يد الغدر في نظام درغي بسبب الوشاة والمفسدين وأهل الحقد عليه فأعدم الحاج محمد صادق رحمه الله على يد هذا النظام بعد احد عشر شهرا من تاريخ هذه المناظرة كما ذكر لي والله أعلم. فلنرجع إلى قصة المناظرة : - فلما صلوا الظهر وتناولو الطعام والغداء بدأت الجلسة فقال الحاج محمد صادق الأني ليسكت الجميع ولا كلام لأحد هنا إلا للمتحاورين يعني جنيد وشيخنا. 1- فبدأ القاضي جنيد يوجه الأسئلة إلى الشيخ عبد الله فقال في أول كلامه : ذكر لنا أنك تحرم الذبح للضيف مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضيفه أحد الصحابة وأراه المذبوحة وجاءه بها ودعا عليها. فأجاب الشيخ قائلا: لا تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال ( من كذب علي متعمدا فليتبؤ مقعده من النار) فإن رسول الله ما رأى تلك الشاة بعينه ولا دعا عليها كما تزعم أنت وإنما قال له حين رآه آخذا الشفرة ( إياك والحلوب ) وأنا لا أحرم الذبح للضيف وهذا سنة الأنبياء وإنما أحرم أن يجاء بالمذبوحة إلى الضيف ويبارك فيها فتذبح على اسمه فتكون ميتة لأنه حينئذ تكون مما أهل لغير الله به ويذكر فيها أسماء عدد ممن يعتبرون الأولياء فسكت جنيد. 2- ثم سأله القاضي جنيد فقال ذكر لنا أنك لا ترى توبة للزاني، و نعلم أن من تاب تاب الله عليه وتكفيه التوبة. فأجاب الشيخ قائلا: أنا لم أقل ليس للزاني توبة ولا أقول ذلك فأخرج عن الإجماع ولكن ما أقوله أنا التوبة لا تسقط الحد عن الزاني إذا وصل الأمر إلى الإمام وحصل اعتراف أو شهود أربعة لقوله تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة )سورة النور: الآية 2] وهذا في البكر، وفي المحصن الرجم أما إذا لم يصل الأمر إلى الإمام وستر الله عليه كان ذلك إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه هذا قولي. قلت ويفهم من هذا أن جنيدا كان يعتقد أن التوبة تسقط الحد عن الزاني البكر والمحصن بلا أي مستند من آية أو حديث أو إجماع - نسأل الله السلامة والعافية-. 3- ثم انتقل القاضي جنيد إلى المسألة الثالثة فقال ذكر لنا أنك تبدع الاحتفال بالمولد النبوي وإظهار الفرح والسرور وضرب الطبول بهذه المناسبة؟ فأجاب الشيخ قائلا: هذه من الحاجات البسيطة التي لا ثواب لها وليست من الدين في شيء، وأنا أحتفل بهذه المناسبة في قريتي ولكن أقول إنها ليست من الدين في شيء وما منعت الناس عنها حتى الآن. قلت وكان شيخنا آنذاك لم يترك الاحتفال بمناسبة المولد النبوي وترديد المناظم تدرجا فلما ألف الناس مذهب السلف وتعودوا على المقاصد ترك الاحتفال بهذه المناسبة وترك الناس معه. 4- ثم سأله القاضي جنيد قائلا: ذكر أنك تحرم زيارة القبور مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)؟. فأجاب الشيخ قائلا أكمل حديث الرسول قل (فإنها تذكركم الآخرة ) أنا لا أحرم زيارة القبور ولا يجوز لي ذلك إذا كانت على هذه الصفة لتذكر الآخرة والسلام على أصحابها والدعاء لهم بالصيغة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا كانت الزيارة للقبور لدعوة أصحابها وتملقهم لدفع البلوى والشكوى وتفريج الكربات وارتكاب أنواع من الشرك الأكبر عند القبور، وليتخذ أصحاب القبور آلهة يعبدون من الله تبارك وتعالى كما تعتقد أنت وجماعتك، فنعم هذه الزيارة محرمة غير مشروعة بالكتاب والسنة. 5- ثم سأله القاضي جنيد فقال ذكر لنا أنك تحرم ذبائح المآتم وإطعام الناس وتقول إن المذبوحة على هذه الصفة ميتة؟. فأجاب الشيخ قائلا نعم لا يجوز الذبح في المأتم ولا يجوز أكل لحم المذبوحة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا عقر في الإسلام) ولأنه ذبح ليس له أصل في الشريعة يستند إليه وإنما هو استحسان مستحسن فصارت ميتة والنكرة في سياق النفي تعم. فقال جنيد لا دليل لك في الحديث الذي ذكرته لأن العقر هو الطعن وليس ذبحا، فأجاب الشيخ قائلا لا إنما هو الذبح ألا ترى قول الله تبارك وتعالى في قصة قوم صالح (فعقروا الناقة ) سورة الأعراف: الآية 77]، (فعقروها فأصبحوا نادمين) سورة الشعراء: الآية 157] أي ذبحوها وقتلوها وإذا قلت العقر في الحديث هو الطعن لزمك أن تقول في الآيتين العقر هو الطعن فتقول إن صاحب ثمود لم يذبحها وإنما طعنها فقط، فأسكت جنيد. 6- ثم سأله القاضي جنيد فقال: ذكر لنا أنك تحرم البناء عل القبر واتخاذ الأضرحة؟. فأجاب الشيخ قائلا نعم لا يجوز البناء على القبر فعن جابر رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه رواه مسلم. ولأنه وسيلة كبيرة إلى الشرك وأنواع من المعاصي من ذبح لأصحاب الأضرحة ودعائهم والخوف منهم كما يخاف الله ورجائهم كما يرجى الله وهذا كله في البناء على القبر، فقال الجنيد نعم مسألة البناء على القبر مسألة لا أعنفك عليها ولا أحبذها. 7- ثم سأله جنيد فقال: ذكر لنا أنك تحرم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟. فأجاب الشيخ قائلا كيف أحرم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد فرضه الله تعالى علينا في سورة الأحزاب بقوله ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه تسليما)، ولكن ما قلته أنا وأقوله الآن إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصفة جماعية وبصيغ محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، لا يجوز ولا ثواب عليه إلا أن تكون الصلاة بالصيغ الواردة عن الشارع لأن الصحابة لما علموا فرضية الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم لم يستحدث كل واحد منهم لنفسه صيغة بعينها حتى رجعوا إلى الشارع لتعلم كيفية الصلاة عليه إدراكا منهم أن العبادات كلها بأفعالها وأقوالها توقيفية فقالوا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .... ) والصلاة عليه بصفة جماعية كما جرت العادة عليه في بلادنا بدعة مستحدثة والبدع في الدين كلها ضلالة . 8- ثم سأله القاضي جنيد فقال ذكر لنا أنك تحرم التوسل بالأولياء وتنفي أن يكون هناك أولياء؟. فأجاب سماحة شيخنا قائلا نعم لا يجوز التوسل بالأولياء ولا بغيرهم بالكيفية التي تعتقدها أنت وجماعتك من التوسل بأصحاب الأضرحة الذين لا حول لهم ولا قوة وبالغائبين من الأحياء الذين لا يسمعونك ولا يستجيبون لك ولا يعلمون ما أنت فيه من نعمة أو نقمة وهذا من الشرك الأكبر تدعوهم وتستغيث بهم وهذا توسل غير مشروع ، وأما التوسل بدعاء الصالحين والأولياء الأحياء الحاضرين القادرين فهذا توسل مشروع مطلوب. وأما بالنسبة لما ذكرته من أني أنفي أن يكون في الأمة أولياء فهذا لا أساس له من الصحة ولا أعتقده أنا. وهكذا انتهت هذه المناظرة بين شيخنا وبين القاضي جنيد وذكر الحضور من تلامذته أنه كانت تحدث هناك ضجة كبيرة أثناء المناظرة إثر إجابة كل مسألة، فتتدخل لجنة التحكيم التي شكلت للمناظرة بينهم الشيخ عبد المجيد الشقيق الأكبر للقاضى جنيد وأحد علماء رايا وكان أسن من جنيد وأكثر منه علما وحياديّة، كما ذكر لي الوالد رحمه الله وهو والد الشيخ سعد الدين عبد المجيد فكانت لجنية التحكيم تتدخل وتحكم على إجابات الشيخ عبد الله بأنها كافية شافية. فاعترف جنيد بهزيمته وقال أنا أعلم أنما يقوله حق ولكن أنا مقدم عليه ولا يستحق هو أن يثير هذه المسائل على الملأ وقال له اكتم هذه المسائل ولا تنشرها على الناس، فقال شيخنا رحمه الله ليسمع الحضور أن جنيد يأمر بكتم العلم وهو يعلم أن ذلك حرام، والله لا أكتمه ثم أمر شيخنا بإنزال فتوى الشيخ جمال الدين محمد الأني وكانت معلقة في جدار المسجد من جهة القبلة فأنزلت وقال انشروها فو الله لا تفتقدون فيها مسألة واحدة مما أقوله لكم فلما نشرت إذا فيها كل أحكام المسائل التي أثيرت في المناظرة بتحريم وتبديع وبشكل واف وشاف كلها تصب في صالح الشيخ، ففوجأ الجميع حيث لم يكن يخطر ببال أحد أن الشهادة عليهم تخرج من عقر دارهم ولم يعلموا بها مما جسّد موفق الشيخ عبد الله وكان له مزيدا من النصر فأذعن الجميع وطلب القاضي جنيد في نهاية المطاف الصفح من شيخنا من استدعائه للمناظرة و استخدامه معه عبارات قاسية. والشيخ جمال الدين محمد الأني صاحب الفتوى المذكورة هو الجد الأعلى للحاج محمد الصادق الأني الذي سبق أن ذكرناه في هذه الرسالة، فهو الحاج محمد صادق بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الصمد بن الشيخ جمال الدين محمد الأني، هذا ويذكر أن الشيخ محمد بن المفتي محمد سراج قال لشيخنا أثناء المناظرة ((يا شيخ عبد الله إن الله تعالى يقول ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) و ( ومن شذ شذ في النار ) فارجع عما أنت عليه إلى الجماعة))، فالتفت إليه شيخنا وقال حاش الله هل تدعوني إلى الشرك والبدع؟. وكان محمد هذا قد أرسل رسالة إلى شيخنا يدعوه فيها إلى الاستجابة لطلب القاضي جنيد للحضور للمناظرة ويحثه عليها وذكر أنه يعينه ويقف بجانه إذا ما حضر للمناظرة، فلما حضر للمناظرة إذا هو يقف بجانب أعدائه المبتدعة وكأن شيئا لم يحدث بينه وبين شيخنا من المراسلة والتفاهم على هذا الموضوع وهذا التصرف كما ترى خيانة لا تغتفر لكن شيخنا رحمه الله لم يفضحه في الملأ ولم يذكر ما حصل بينه وبين محمد من المراسلة والتفاهم وكظم غيظه، وذلك لمكان والده المفتي محمد سراج رحمه الله. ثم رجع الشيخ مع رفقائه راكبا بغلته وذلك قبل غروب شمس يوم المناظرة منتصرا بنصر من الله تبارك وتعالى وحقن الله دمه ودم المسلمين معه ونجاهم من أن يكونوا ضحايا نظام درغي ثم قال شيخنا -وهو يتحدث مع رفقائه في الطريق –(أترون هذا النصر حصل بقوة المنطق وصلابة الموقف لا والله إنه من تدبير الواحد القهار وقوته وتوفيقه). أيها القارئ الكريم ورغم هذا النصر الكبير الذي تحقق لشيخنا رحمه الله إلا أن جنيدا ما زال يكن لشيخنا ولتلامذته الإحن والبغضاء والله يغفر له ويعتبرهم من الخوارج الذين ينبغي قتلهم قتل عاد وثمود ومما يدلك على هذا أن القاضي جنيدا قام في الملأ بعد أن صلى المسلمون إحدى صلاتي العشي وذلك في أحد مساجد مدينة مقلي في قلب تجراي فقال (أيها الناس إنه قد جاءنا خبر يفيد بوفاة أخينا الشيخ عبد الله محمد الأمين فحيهلا بكم للصلاة عليه صلاة الغائب، )ففزع المسلمون وفوجؤوا بمقالته تلك لأنهم لم يسمعوا بمرضه فضلا عن موته فأرسلوا رسولا إلى مدينة (كُحا) القريبة من مدينة مقلي يستخبر أخبار الشيخ فصادف تلميذين جاءا لتوهّما من عند الشيخ فقال لهما الخبر فقالا له أي خبر؟ فقال الرسول خبر الشيخ وذكر لهما مقالة جنيد، فكذبا مقالة جنيد وذكرا أن الشيخ عبد الله بخير وأنه حي يرزق وأنه يمارس أعماله التعليمية بشكل اعتيادي فعلم الناس أن ذلك فرية، فلما سمع شيخنا هذه المقالة قال وهو يبتسم (واعجبا لجنيد ألم يترك هذه الإحن والبغضاء وأي نفع له في موتي وإن مت أنا مت من أسرتي وأهلي فقط.) وأظن ذلك حدث في عام 1419هـ أي بعد نحو عشرين سنة من المناظرة السابقة الذكر وعاش شيخنا بعد أن أشاع جنيد خبر موته نحو 14 عاما وكأن جنيدا نعى نفسه للناس في تلك المقالة، فوالله ما عاش جنيد بعد ذلك إلا أشهرا قلائل حتى سمعنا خبر وفاته ولعل من الإنصاف أن نقول رحم الله جنيدا رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. وأغفر عوراء الكريم إدّخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما. وسمعت الوالد رحمه الله يقول لقد نصرني الله سبحانه وتعالى يوم المناظرة وأظهر الحق وكان فيمن آزرني آنذاك الشيخ الحاج محمد أسمرو الهدي والشيخ الحاج محمد عبد الله الحاج محمد نور، إذ كان الحاج محمد أسمرو يشرح لهم مواقف الشيخ وأنه رجل بسيط وأنه لا يشكل أي خطر على النظام القائم وأنه لا يدعو إلى أي شيء سوى إلى الله تبارك وتعالى وليس كما تظنون أنتم من تضخيم أمره وأنه يتلقى دعما خارجيا وما إلى ذلك. وكان قصد أعداء شيخنا استدعائه باسم المناظرة ومن ثم تضخيم أمره إن غلب في المناظرة وإعدامه على يد نظام درغي الذي لا يعرف سوى القتل لأسباب بسيطة، وكان الحاج محمد عبد الله الحاج محمد نور رحمه الله يكتب كل ما يدور في المناظرة ويتدخل أحيانا لصالح شيخنا وهو رحمه الله كان من زملاء الشيخ محمد أول بن الشيخ محمد حياة ومن القلائل الذين ذهبوا إلى مصر المحروسة ودرسوا في الأزهر الشريف. ثم فكر شيخنا رحمه الله بعد هذه المؤامرة اليائسة بأشهر في الهجرة إلى بلدة (أبعالا) إلى الشمال الغربي من منطقة عفر حيث كانت منطقة عفر أكثر أمنا آنذاك من بطش النظام وفتكه بالعلماء والأثرياء على حد سواء، فأقام فيها نحو ثلاث سنين تحديدا في قرية أركودي وهو أول من استوطنها فكان يدرس في تلك الفترة التي أقام فيها هناك بشكل اعتيادي فلما هدأت الأمور عاد إلى بلاد رايا وتحديدا إلى قريته ( هدألغا) فلما رجع إليها إذا الرعاع من المسلمين والكفار قد نصبوا أنصابا في مجالسه التي كان يجلس فيها ويدرس فيها يستسقون بها ويتبركون بها بعد هجرته إلى أبعالا، فأمر شيخنا بإزالة تلك الأنصاب فلم يبق لها أثر وكان رحمه الله سيف الله المسلول على أسباب الشرك، وواصل شيخنا الشيخ عبد الله محمد الأمين أعماله المباركة من تدريس وإفتاء وإزالة للمنكر واجتثاه من جذوره وبمرور الليالي والأيام وانتشار طلبته في أرجاء بلاده (إثيوبيا) وفي بعض الدول المجاورة وخاصة في جمهورية جيبوتي حيث تلامذته متوفرون هناك جدا لاقت دعوته قبولا واسعا ورجع الناس إلى الملة الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام التي خرجوا منها قبل أن يشعروا أنهم انسلخوا منها، فكان طلبته ينقلون أخباره ومحاسنه وأنه حامل لواء التوحيد حث حلوا فأحبه الناس حبا شديدا وغزى قلوب الناس وهو في مكتبته وفي مسجده، وانقلب الأعداء أصدقاء واللعن دعاء والسب مدحا وثناء، وشاع صيّته وذاع حتى سمع به مفتي الديار المقدسة المرحوم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فوجه الدعوة إليه لزيارته ولقائه في السعودية فلم يتمكن شيخنا رحمه الله من تحقيق ذلك بسبب انشغاله بالتدريس، وكان قليل الأسفار وكذالك وجه إليه الدعوة عدة مرات السلطان علي مراح رحمه الله سلطان سلطنة أوسا العفرية فلم يذهب إليه ولم يزر السعودية إلا في عام حجته وذلك في أواخر عهد الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله أي قبل استشهاد الملك بعام أو عامين ثم عاد رحمه الله بعد فراغه من أداء فريضة الحج إلى بلاده وواصل أعماله المباركة، واستمر كذلك إلى أن جاء عام 1421هـ فاستدعي الشيخ لحضور افتتاح مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مدينة أبعالا شمال ولاية عفر فتم افتتاح المسجد . ثم طلب منه تلامذته وأهل منطقة أبعالا أن يهاجر إليهم مع أسرته ليعلمهم ويرشدهم ويوجههم فوافق الشيخ على ذلك بعد التفكير مليا، ثم عاد إلى بلدته (رايا)، ثم شاع الخبر في عام 1422هـ أن الشيخ عبد الله عزم على الهجرة إلى أبعالا فقامت مظاهرة حاشدة من قبل أهل رايا ضد هجرته وخروجه إلى أبعالا فاعتذر الشيخ للناس وشرح لهم ما دعاه للهجرة إلى (أبعالا )فلم يقتنعوا بذلك وأصروا على منعه من ذلك، وفي يوم السبت الحادي عشر من شهر محرم 1423هـ خرج الشيخ عبد الله محمد الأمين مهاجرا إلى منطقة أبعالا بعد أن أرسل له تلميذه الشيخ إدريس نقوس قاضي المحافظة سيارة خاصة بتنسيق من السلطات المحلية في المحافظة وتلامذته ولم يشعر أهل (رايا ) بخروجه حتى وصل إلى مقصده عشية ذلك اليوم فنزل مدينة أركودي حيث أخواته وأبنائهن وسائر أقاربه ففرح الناس بقدومه فرحا شديدا ورحبوا به واستبشروا خيرا. ثم بني له مسجد كبير يحمل اسم مسجد (بلال) من جهات خيرية وبإدارة تلميذه الشيخ الحاج أحمد سلا الأووي فبدأ الشيخ رحمه الله كعادته أعماله المباركة من التدريس والإفتاء والصلاح والإصلاح، وكانت هذه الأمور ديدنه في حله وترحاله وبدأ الناس يتوافدون إليه للاغتراف من معينه وحصل لهم ما أرادوه وبعد نحو سنة من هجرته إلى أبعالا دعا الناس للاجتماع في مسجده كل سكان أبعالا فدعاهم إلى إقامة حكم الله عز وجل في عدم قتل نفس بريئة بجريرة نفس أخرى بدعوى الأخوة في النسب والانتماء لقبيلة القاتل فلبا المسلمون دعوته فاجتمعوا فعاهدوا الله على ذلك وأخذ منهم الميثاق وقرأ عليهم بعد ذلك الآية الكريمة في سورة الفتح ( ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) سورة الفتح الآية:10] وذكر لهم الوعيد الشديد الذي ورد في الكتاب والسنة لمن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض وأوصاهم أن يتعايشوا بسلام وأمان وباحترام متبادل بين المسلمين.
 عــــقــــيــــدة الــــشــــيــــخ: لقد كانت عقيدة الشيخ العلامة عبد الله بن محمد الأمين عقيدة سلفية صافية نقية وكان مذهبه مذهب السلف الصالح في كل باب، وهو وإن كان عالما بالمذهب الحنفي متمكنا فيه إلا أنه تبرأ منه فيما يخالف فيه مذهب السلف ولا يعتقد اعتقادهم فيما يخالفون فيه السلف ولا يتعصب لهم بل يقول نحن مع الحق أينما كان ولا نخضع لأي رأي يخالف ما كان عليه سلف الأمة بل نحن متمسكون به وكان يقول لتلامذته (اتبعوا ولا تبتدعوا). وكان رحمه الله كثير الإطلاع على كتب عقيدة أهل العلم وخاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أو ل من أدخل فتاوى ابن تيمية إلى بلدة (رايا) 37 مجلدا وقد استوعبها كلها اطلاعا وكان أحد أصدقائه قد سلم تلك الفتاوى إليه حين التقيا في أديس أبابا عاصمة البلاد وخاف الرجل أن يدخلها رايا خوفا من أن يؤذيه أهل الباطل فملكها شيخنا فجاء بها إلى قريته ( هدألغا) وكان يقرأنا ونحن صغار كتيبات العقيدة الابتدائية ككتاب الأصول الثلاثة والقواعد الأربع للشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتاب عقيد الواسطية وغيرها من كتب العقيدة. وأنا أدعو نفسي وإخواني من المسلمين أن نعلم أبنائنا مثل هذه الكتب لكي نرسخ على قلوبهم هذه العقيدة الصحيحة ويتربوا عليها ولا يستجيبوا لغيرها من العقائد الباطلة والمفسدة وخاصة في هذه الآونة التي اختلط فيها الخبيث بالطيب والطالح بالصالح وكثر فيها دعاة الضلال - نسأل الله السلامة والعافية-. هذا وكتب شيخنا - رحمه الله – في عام 1422هـ حينما بلغته شائعات تفيد بانتشار خطر التشيع في البلاد كتب يقول قال عبد الله بن محمد الأمين الحميدي : ((إني أشهد الله تعالى ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره وبما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى{{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}} فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه ولا ألحد في أسمائه وآياته ولا أكيف ولا أمثل صفاته بصفات خلقه)) إلى آخر ما قال في رسالته رحمه الله وكان رحمه الله من أشد المنكرين لتأويل النصوص سواء كانت عقائدية أو غير عقائدية ويعتبر تأويل النصوص وتصريفها تصريف الرياح تقولا على الله عز وجل وإتباعا للهوى، وسمعته يقول ((كل ما ليس عليه سلف الأمة من الصحابة و التابعين وتابعيهم فهو هوى مردود على صاحبه))، ولما حصلت على بعض كتب جماعة الأحباش ذهبت بها إليه لأسمعه شيئا منها ليقف عليها فصاح بي وقال (( لا لا إني لا أريد أن ألقى الله عز وجل وقد دنست سمعي بهذه الاعتقادات الباطلة إن شئت أن تسمعني فأسمعني من كتب علمائنا ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن عثيمين وغيرهم من علماء السنة)) فأسمعته رحمه الله شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين – رحمه الله – فانشرح صدره وكان ذلك قبل أشهر من وفاته، وكانت حدة النظر قد خفت لديه في السنوات الأخيرة بسبب مرض السكري الذي كان يعاني منه ومن قبل كان يستخدم النظارات المكبرة لمذاكرة الكتب وكان لا يشبع من ذلك.
 صور من أخلاقيات الشيخ: ورعه وزهده- لقد فتح الله الورع والزهد على مصراعيه على شيخنا الإمام عبد الله محمد الأمين العفري فقد كان على جانب كبير من الورع والزهد كما هو عادة العلماء الربانيين فكان يخاف الله عز وجل أيما خوف ويتصرف في الصباح وكأنه على موعد مع الموت العشية ويتصرف في العشية و كأنه على موعد مع الموت الغداة وسمعته يقول (( إنما ننتظره وما ينتظرنا لأمر عظيم)) وسألته عن ذلك فقال (( يا بيني ما ننتظره هو الموت وما ينتظرنا هو القبر وظلمته ووحشته)) وكان وعظه وإرشاده في الموت وما بعده من أمور البرزخ والآخرة وكنت عنده يوما فجاء رجل يشكو إليه نشوز امرأته ويطلب منه التدخل للصلح بينهما ومع الرجل هدية متواضعة نصف كيلو من السكر فرد تلك الهدية خوفا من أن تكون كالعوض من الشفاعة التي أرادها الرجل وكان لا يأكل طعام النذور ولا طعام المآتم فكان يصلي على الجنائز ويرجع بعد الصلاة إلى منزله ويقول (( إنما الأكل في الأفراح لا في الأتراح))، وسمعت الشيخ رحمه الله يقول ((لقد مررت يوما على قوم يقعون فيّ وهم لا يرونني فهممت أن أقف وأستمع إليهم فتذكرت حديث الآنك فانصرفت عنهم )) وهذا يدلنا على كمال ورعه وخوفه من الله وعذابه وتصديقه بالوعد والوعيد، وكان لا يخوض في الباطل ولا فيما لا يعنيه، وسمعته يوما يقول (( لولا جلسائي ما سئمت من السكوت)) وذكر لنا يوما ونحن في ثنايا الدرس أنه لما توفيت امرأة اشتهرت بالفسق والتشبه بالرجال في كل شيء وقد سماها لنا ولا داعي لذكر اسمها هنا قال (( دعوت الله تعالى أن يرسل علي حمّى خفيفة أعتل بها عن حضور جنازة تلك المرأة المجاهرة بالفسق والزندقة، فاستجاب الله دعوتي فلم أحضر تلك الجنازة بحمد الله عز وجل)) وكان – رحمه الله – لا يخاف في الله لومة لائم وكان لا يسمع برجل ولا امرأة جاهر بفسق إلا دعاه فاستتابه فإن تاب وإلا هجره حتى يتوب. ولم يتقلد شيخنا – رحمه الله – أية مناصب حكومية أو غير حكومية في حياته وعرض عليه الشيخ الحاج محمد صادق يحيت قاضي ولاية تغراي في عهد نظام درغي وكان بينهما صلة رحم وزمالة في دراسة عرض عليه هذا الشيخ تولي القضاء فرفض شيخنا هذا العرض وقال ((لا حاجة لي في هذا)) وسمعته يقول (( من اقترب أبوب السلطان افتتن)) وظل يعلم ويرشد ويصلح إلى أن وافته المنية من غير أن يلتفت إلى ما عند الآخرين من منصب أو جاه أو مال وقد مات – رحمه الله – ولم يخلف في هذه الحياة الدنيا أحب إليه من ثلاثة أمور:- 1- العلم والتعليم فكان لا يشبع من التدريس فكان يدرس مع ما ابتلاه الله تعالى من الأمراض المتراكمة، وهو مستلق على فراشه مريض ولما كبر وضعف كان يقول لي يا بني طالعنا من كتب أهل العلم فكنت أسمعه ما تيسر من التفسير والتوحيد وغيرهما، وكان إذا قيل له فلان عالم صالح سرّ بذلك، وإذا قيل له فلان عابد لم يعبأ بذلك وسمعته يقول ((لأن أطالع صفحة واحدة من كتب أهل العلم أحب إلى من أن أصلي ركعتين)). 2- تلاوة القرآن فكان يحب تلاوة القرآن ومدارسته وخاصة السماع من الغير وكان لا يكاد يخطئ في التلاوة ومع تقدم سنه وعجزه عجز عن التلاوة والاستمتاع بها إلا أنه ما زال يحب سماع القرآن فكان رحمه الله يخرج إلى المسجد في ليالي رمضان مع كونه لا يستطيع الصوم في النهار و القيام بالليل بسبب الأمراض وخاصة مرض السكري، كان يخرج إلى المسجد لاستماع القرآن من القراء وخاصة في صلاة التراويح وكان يحاضر محاضرة خفيفة قبل الصلاة أي صلاة العشاء، ثم يأخذ جانب المسجد فيستمع لقراءة الإمام فإذا فرغ الإمام من صلاة التراويح انصرف إلى منزله. 3- صلاة الجماعة فكان رحمه الله يحرص على صلاة الجماعة مع الإمام وكانت الصلاة لا تقام إلا بعد حضوره، وكان - رحمه الله- يلبس لباسا خاصا للصلاة غالبا ليقف بين يدي ربه على أحسن هيئة وفي السنوات الأخيرة التي اشتد المرض عليه فيها كان يذهب إلى المسجد فيصلي قاعدا، وذلك حرصا منه أثابه الله على صلاة الجماعة، وفي بعض الأحيان كان يقعد فإذا اقترب الإمام من الركوع قام فركع وذلك كله بسبب الأمراض التي لازمته. ومما يدل على ورعه وخوفه من الله عز وجل أنه كان إذا عرضت عليه مسألة لم يجب عليها فورا حتى يفتش ويفتح لها الكتب ويمعن النظر فيها وقال لي (( يا بيني لا تسرع في الفتوى فإن من أجاب بكل ما سئل فذلك علامة جهله)). وأما زهده فحدث ولا حرج فكان – رحمه الله- من أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة وكان يلبس الثوب الواحد لأكثر من عشر سنوات ويكفيه إزار واحد لأكثر من خمس سنوات فإذا قيل لم لا تغير ثيابك كل هذه المدة الطويلة؟ قال : لا حتى لا تجوز فيها الصلاة يعني حتى يتخرق ويبلى وما رأيته يلبس الشراب ولا الخفاف ولا أجهزة ضبط الوقت ( الساعة) إلا ساعات البيت الكبيرة، وكان لا يلبس اللباس الغالي الثمن رغم الإمكانات الهائلة التي لديه، وكان رحمه الله بفضل الله في رغد من عيشه، وكان يلبس اللباس المتواضع الأبيض وينتعل النعل المتواضع، وكان تلامذته ومحبوه يرسلون له الملابس والنعال الغالية الثمن فلا يحتاج إليها ولا يستخدمها وأرسل له يوما أحد المسئولين العفريين فوطة من طراز (بربرة) فما التفت إليها وقال لي البسها أنت, وكان بيته ومكتبته من طين وخشب، وكان رحمه الله يكثر في آخر دعواته التي كان يدعو بها أن يقول (وتوفنا وأنت راض عنا)ويظن الناس أن الله تبارك وتعالى توفاه وهو عنه راض ولله أعلم بعباده وكان رحمه الله- يواسي الناس بماله ويسألهم عن أحوالهم وعن حوائجهم ويتبرع لهم بما يستطيع ويقرضهم إلى ميسرة أتذكر أنه عادت سنة على أهل رايا ولم يحصدوا أي شيء من المحاصيل الزراعية وكان عند شيخنا مدّخر من الطعام فأمر بإقراض أهل قريته كلهم من ذلك الطعام إلى موسم الحصاد المقبل فانتفع الناس بذلك الطعام. وكان رحمه الله- لا يذهب إلى السوق وحتى إلى مزرعته ولم يعهد أنه ذهب إلى السوق فاشترى منه شيئا منذ أن جلس للتدريس، وكان لا يؤخذ الفلوس بيده سواء كان في الحضر والسفر. وكان يرابط في مكتبته لنفع الناس ليعلمهم ويرشدهم ويصلح بين متخاصميهم فقام بوساطات كثيرة في إنهاء نزاعات مسلحة نشبت بين المسلمين والصليبيين فحقن الله بسببه دماء فئام من الناس وأموالهم لمكان له من مكانة دينية واجتماعية في المجتمع فكان لا يتوسط في قضية إلا نجحت تلك الوساطة وآتت أكلها كما يعرف الجميع فعاش للإسلام وبالإسلام وعاش الإسلام به أثابه الله. وكان رحمه الله كما أن عنده طب الأرواح من العلم الشرعي كان عنده طب الأبدان فكان عالما بطب الأعشاب فكان يداوي الناس بالأعشاب بأنواعها وبالرقية الشرعية وبالأدعية المأثورة وكان مستجاب الدعوة بإذن الله عز وجل مما يدلك على أنه كان عبد الله حقا لأن الله تعالى يستجيب دعاء عباده المخلصين القانتين.
 حلمه وتواضعه: أما حلمه وتواضعه فيعجز عنه الوصف بالبنان لقد كان مثالا يحتذى به في الحلم والتواضع وشيم العلماء العالية النبيلة كما يشهد بذلك كل من عاشره وصاحبه وراءه، فكان يتحلى بالحلم والأناة وكظم الغيظ وعدم دفع السيئة بالسيئة كما هو دأب الرجال الكمل وما رأيته جلس متربعا في حياتي، وعرف رحمه الله بعدم التسرع وعدم الإقدام على الشيء من غير تبصر وفحص ومن غير رؤية لعواقب الأمور مما أكسبه حب الناس القاصي منهم والداني واستوعب رحمه الله أصناف الناس على مختلف توجهاتهم وميولاتهم كلا حسب إدراكه ووعيه بحلمه وحنكته فبسبب ذلك كان كل واحد يظن أنه أحب إليه من غيره وأنه هو القريب منه، ويذكر أنه لما تشاجر أهل قريته ورجل أعمال من غير المسلمين في بئر كانت لهم أدعاه الرجل عليهم ظلما وعدوانا وكان الرجل من القريبين من الشيخ ولكن خانته ثروته وظن انه يحصل على البئر بالقوة فانقطعت العلاقة التي كانت بينه وبين الشيخ ثم إن الرجل أصابته جائحة بقدرة الله فطلب الصلح مع الشيخ فاستشفع برجل من المسلمين فجاء به الرجل حتى كان قرب منزل الشيخ فأجلسه هناك ودخل على الشيخ فاخبره أن فلانا بالباب وأنه يطلب الصلح معه وأنه استشفع به فما إن سمع الشيخ هذه المقالة حتى خرج إلى الرجل فصافحه ورحب به وكأن شيئا لم يكن بينه وبين الرجل فقال له الشافع (( بهذ ا الخلق العظيم ملكت الناس كلهم واستعبدتهم وكنت أظن أنك تردني من الباب وترفض الصلح))، وكان رحمه الله يتحمل أسئلة الطلاب التي توجه إليه على الرغم من كثرتها وتتابعها ويحرص على تفهيمهم وكان يتعامل معهم كأنهم أبناء من صلبه وكان يسأل عن أحوالهم وكان رحمه الله يكره التعرض لأحد من العلماء بشيء من الأذى لمجرد أخطاء ارتكبها في مسائل الدين يقول (اتركوا العلماء وشأنهم ولا تؤذوهم فإن محاسنهم أكثر من مساويهم وتكفينا عيوبنا)، وانظر إلى الفرق الكبير بين هذا الموقف من شيخنا وأمثاله وبين موقف من يتطاولون اليوم على العلماء الموسدين في القبور منذ مآت السنين بأقبح العبارات وأشنعها التي لا يستحقها أي مسلم فضلا عن أولئك الأعلام الذين صنعوا تاريخا من المجد للأمة وعاشوا للإسلام وبالإسلام، لا لشيء إلا لأنهم ماتوا وهم يعتقدون غير ما يعتقدونه هم وذهبوا غير مذهبهم وافتقد الكثير منا اليوم الإنصاف والورع وأصبح يلقي على الآخرين الاتهامات جزافا وأفسد التعصب لهذا الإمام أو ذاك على الناس دينهم ودنياهم والله المستعان وعليه التكلان. وكان رحمه الله من أخلاقه الصبر والشجاعة والهمة العالية وبالصبر تميز عن الآخرين من أهل زمانه وأحبه عليه الناس لأن الصبر جرعة مريرة لا يجترعها إلا الفحول القلائل وكان رحمه الله يصبر علينا نحن الأبناء والأحفاد والأقارب على أي تقصير وسوء تصرف بالنسبة لما يخصه هو وكان إذا أبغض شيئا من الأفعال والأقوال سكت ولم يعط الجواب وأعرض، وكان - رحمه الله- نسابة العفر فكان يعرف أصول قبائلها وتواريخها وكان يعتبر حفظ الأنساب من الدين لأن لا ينتسب الناس إلى غير آبائهم كفعل الجاهلية الأولى، وكان يحثنا على التعلم والتفقه والتحلي بالهمة العالية والتطلع للحاق بركب الصحابة والتابعين وخيار الأمة وكان يستخدم عبارات مشوقة إلى التعلم والتبحر من قبيل ( قراءة شهر فرح دهر ) و (العلم إذا أعطيته كلك أعطاك جزءه ) و ( العلم في الصغر كالنقش في الحجر ) (لا يترك الكل لغرابة البعض) إلى أمثال هذه العبارات. هذا وأود أن أشير هنا إلى أن الوالد رحمه الله لم يتسن له تأليف الكتب إلا كتابا واحدا سماه (تعطير المجالس في خيام العرائس)ولم يكمله وإنما لم يتسن له تأليف الكتب لأنه كان لا يجد فرصة يؤلف فيها الكتب بسب انشغاله بالتدريس ولأنه كان لديه نظرة مختلفة عن باقي العلماء في تأليف الكتب فكان يقول(كفينا التأليف من قبل علمائنا وإنما الناس بحاجة اليوم إلى من يعلمهم تلك المؤلفات الضخمة فأقرؤها وتعلموها وعلموها)
 اقتصاد الشيخ: كان رحمه الله يحب الكسب والعمل والتسبب في الرزق فكان يعتمد أولا في دخله بعد الله على الزراعة وكان له مزارع كبيرة، فكان يحصل منها على محصودات هائلة ينفق منها على عياله وكبار تلامذته وضيوفه الذين كان لا يكاد يومه يخلو منهم ثم زاد الماشية ثم زاد التجارة عن طريق الغير لفترة وكان لا يباشر أي عمل بنفسه إلا أن يكون عن طريق تلامذته وعن طريق اليد العاملة بالأجر، وكان رحمه الله يدير شئونه وهو في مكتبته وكان لا يتطلع إلى ما في أيدي الناس إلا ما جاءه من غير إشراف ولم يتلق أية رواتب من أي جهة كانت إلا في فترات يسيرة ،وقد يقول قائل إنك تحدثت عن زهده، وأنه كان لا يبالي في الدنيا ولا يعبأ بها وتتحدث الآن عن مكاسبه الهائلة، والجواب عن هذا التساؤل ليس المراد من الزهد الذي تحدثت عنه هو القعود عن الكسب وعن التسبب في الرزق وبالتالي يكون عيالا على الخلق ومتطفلا لا، هذا لا يجوز أبدا وإنما الزهد الشرعي أن تكتسب ولا تجمع ولا يغرك كسبك عن أمور الآخرة وتنفق ما اكتسبته في وجوه الخير من غير أن تتضرر أنت كما قيل ( الزهد فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد منها ) وتذكر أثرياء الصحابة مع كونهم أزهد الناس في الدنيا مثل أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وغيرهم من الأخيار رضي الله عنهم أجمعين.
 صفاته الخَلقيةوإن كانت الصفات الخلقية وحسن الصورة مما لا يتفاوت الناس به عند الله ولا عبرة بها ولكن التفاوت فيما سبق ذكره إلا أني أحببت أن أصف ذاته لمن لا يعرفه ولم يجتمع به . وخاصة أنه كان لا يسمح أن تلتقط له صور إلا نادرا، فكان رحمه الله طويل القامة أسمر اللون بعيد مابين المنكبين ضخم العينين وكان رجلا وسيما بهيا مهابا قد ألقيت عليه المهابة هبة من الله تعالى المهاب وكان قليل شعر اللحية ولم يكن في عارضيه شيء من الشعر.
 مرضه ووفاته: لقد ابتلى الله المتعالي شيخنا الإمام عبد الله محمد الأمين العفري بأمراض كثيرة مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) رواه مسلم فأبتلى بأنواع من الأمراض منذ أن كان في أوساط عمره وخاصة في العقدين الأخيرين من عمره حيث كان رحمه الله يعاني من مرض السكري والمعدة وذات الجنب وأخيرا الالتهاب الرئوي وغير ذلك من الأمراض فكان يعايد المستشفيات من وقت لآخر وكان المرض يشتد عليه سنويا في شهر رمضان ففي رمضان عام 1418هـ مرض مرضا أشفى منه على الموت نقل على إثره إلى مستشفى أهلي في مدينة ماجو في (رايا) فعولج هناك فشفاه الله. وفي رمضان 1421هـ اشتد عليه المرض فنقل بعد عيد الفطر إلى مستشفى أهلي في مدينة ألماطا في جنوب رايا فخضع لفحص طبيب هناك فشفاه الله تبارك وتعالى ثم في رمضان العام التالي عاوده المرض واشتد عليه فنقل بعد عيد الفطر إلى مستشفى أهلي في ألماطا أيضا فعولج هناك وأضره كثيرا عدم تشخيص مرض السكري فيه حيث فشل الأطباء في تشخيصه إلى عام 1424هـ فعاوده المرض في شهر رجب من هذا العام فنقل إلى مستشفى أهلي في مدينة مقلي في حي( عد حقي )غرب المدينة فأدخل في قسم العناية المركزة فظل يرقد في المستشفى لمدة خمسة أيام فشخص مرضه حيث اكتشف مرض السكري فيه فظل منذ ذلك التاريخ يستخدم حقن الإبر السكرية حتى وافه الأجل، فكان رحمه الله بعد ذلك تارة تتحسن حالته الصحية وتارة تتدهور وكانت الحبوب غذائه، فعجز منذ ذلك التاريخ تدريس حصص كثيرة كما كان يفعل في السابق إلا الحصص اليسيرة من التفسير والحديث والعقيدة ومحاضرات يسيرة لمن يحضر في مكتبته وكان لا يصبر من التدريس إلا إذا اشتد عليه المرض ونصحه الأطباء بالاستراحة والكف عن مهامه فرفض ذلك وقال (العلم من المهد إلى اللحد) وكان يردد هذه الكلمة وكان تارة يفقد الوعي بسبب اشتداد المرض عليه وبدأت صحته تتدهور تدريجيا بفعل مرض السكري فكان لا يستطيع الحر الزائد والبرد الزائد وبدأت حدة النظر تخف لديه وتأثرت كليتاه بشكل حاد والأعصاب كذلك ويذكر الأطباء أن الإصابة بمرض السكري يؤدي في النهاية إلى تحطم في الكليتين واعتلال الأعصاب وتأثر في حدة النظر، وهذا ما لمسناه في الشيخ رحمه الله وجعل ذلك محو ذنوبه واستمر على ذلك إلى شهر صفر عام 1433هـ عندها شاء الله أن تزل قدمه على أحجار في منطقة وعرة على بعد أمتار من منزله عند ما خرج صباحا للتحرك والتبول فسقط من قامته على الشق الأيسر فأحدث ذلك جروحا طفيفة في ساقه اليسرى فلما رجع ناداني وأنا في منزلي في حي السلام في مدينة أركودي فقال لي حصل لي كيت وكيت وإذا به جروح طفيفة فلطخت المحل بشيء من الدواء ثم بدى الجرح وكأنه يلتئم في الوهلة الأولى إلا أنه انتفخ بعد يومين وحصلت له آلام بسببه حتى عجز عن القيام والذهاب إلى المسجد لصلاة الجماعة وكانت آخر صلاة صلاها مع الجماعة صلاة العشاء فلم يقدر بعد ذلك على صلاة الجماعة في المسجد التي دائما ما كان يحرص عليها واستمر على ذلك حتى كبر الجرح ورفض الذهاب إلى المستشفى لمدة تزيد على شهر وحاول طبيب عارف بطب الأعشاب مداواة الجرح إلا أنه استعصى عليه بسبب مرض السكر، وذكر الأطباء أن زيادة نسبة السكري التي في الدم تأكل الجرح أكلا ذريعا حتى تصل إلى العظم فتكسره ما لم يتدارك بسرعة، فألح عليه الناس حتى وافق على الذهاب للمستشفى وذلك بعد ما تطور الأمر كما ذكرت فأرسلت له سيارة خاصة تابعة لأحد المكاتب الحكومية في المنطقة فأقلته وأنا معه والآخرون فذهبنا به إلى مستشفى مكنن الأهلي في مدينة مقلي حاضرة تغراي فعاين الطبيب الجرح ولم يكن يشعر أنه مصاب بمرض السكري فلما أخبر بذلك دهش وأمر أن يحال الشيخ إلى مستشفى مقلي العام شرق المدينة فأدخل هناك في قسم العناية المركزة وبدأ الأطباء بمداوات الجرح وغسله وبعد أسبوع من إدخاله المستشفى رأى الأطباء أن الجرح يتطلب إلى عملية جراحية لإزالة الجلد واللحم الفاسد من الجرح فتمت العملية وظل راقدا في المستشفى وتوافد المسلمون إلى ذلك المستشفى من مئات الكيلو مترات لعيادته والاطمئنان على صحته رحمه الله وجاءت الإتصالات من هنا وهناك للسؤال عنه حتى سأل العاملون في المستشفى عنه وتعجبوا من كثرة الزوار فأخبروا أنه من علماء الإسلام وكانت الممرضات يتعجبن من أخلاق الشيخ حيث كان ينصاع لأوامر الأطباء في إرشاداتهم لمصلحة العلاج بخلاف أغلب المرضى فإنهم لا ينصاعون لأوامر الأطباء وتسوء أخلاقهم بسبب آلامهم وبالتالي لا ينفذون ما يؤمرون به وسألتني ممرضة سؤال تعجب عن أخلاق الشيخ فقلت حسنت أخلاقه لكونه عالما فقالت كم من عالم وعارف لا يملك نفسه ولكن هذا من الجبلة فعزتني في الخطاب،قلت نعم هذا صحيح فأنه لا يمكن أن يكون العلم أساسا في الأخلاق الطيبة للإنسان من دون أن يجبل عليها وإنما يكون العلم زيادة وعونا لما جبل عليه الإنسان من أخلاق طيبة وسلوك حسن، هذا وكان شقيق الشيخ الأصغر الشيخ محمد نور بن محمد الأمين يتولى الإشراف على ملف علاج الشيخ إلى جانب أبناءه وبعض أقاربه، وكان شيخنا رحمه الله قلقا من أن يوافيه الأجل وهو في المستشفى بين أهل الباطل وكانت الغرفة التي كان يرقد بها مملوءة من الصليبيين ليس فيها مسلم إلا الشيخ ورفقائه، وبعد نحو عشرة أيام من إدخاله المستشفى بدأ الجرح يتماثل للشفاء ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا حدث به مرض آخر فنزلت به بردة شديدة وحصل له إلتهاب في الرئتين وضيق في الجهاز التنفسي وخاصة في الليل وأشار الأطباء إلى أنه يفتقر إلى حقنه بالدم فرفض الشيخ ذلك وقال ((لا أحقن نفسي بالدم حرصا على البقاء وأنا في مثل هذا السن))، وقبل ثلاثة أيام من وفاته طلب من ممرضيه أن يوقفوا عنه كل الأدوية التي كان يتناولها إلا دواء السكري وطلب منهم أن يرجعوا به إلى مركزه لكن الأطباء تقاعسوا على ذلك وبدأ وضعه الصحي يتدهور شيئا فشيئا وبدأ صوته يضعف لكنه رحمه الله لم يفقد الوعي حتى اللحظات الأخيرة من حياته وكنت أقرأ عليه القرآن بطلب منه ويستمع للتلاوة بنشاط، ثم دنت ساعة الرحيل التي كان يعمل لها منذ نعومة أظفاره فجأة وهو في المستشفى ضحى يوم الاثنين الخامس من شهر ربيع الثاني عام ثلاثة وثلاثين وأربع مائة وألف للهجرة، فسمعته هلل وسبح ولم أسمع منه بعد ذلك كلمة فأنزل من سرير الإستشفاء على كرسي متحرك تابع للمستشفى إلى سيارة خاصة أعدت لنقله ثم كابد سكرات الموت وغمراته فلم يقدر بعد ذلك على شيء فذهبنا به في السيارة حتى أتينا به منزله في مدينة أركودي في أبعالا فلم يلبث إلا ساعات قليلة حتى صعدت روحه الطاهرة بإذن الله إلى بارئها عصر نفس ذلك اليوم الاثنين فتفاجأ الناس بموته حين سمعوا خبر وفاته لأنهم كانوا يظنون وينتظرون تعافيه، ويقولون إنه يعالج من جراحات أصيب بها ولم يخطر ببالهم أنه حدث به مرض آخر أدى إلى وفاته فبكى الناس بكاء شديدا حتى فقدوا دموعهم حتى الأطفال الصغار لكن الجميع بعد ذلك استسلم للقدر الذي قدره الله تبارك وتعالى، وتدفق الناس إلى أركودي فور انتشار خبر وفاته فما غربت الشمس حتى ملأ الناس الساحات وافترشوا الأرض بأعداد هائلة ولعبت شبكات الإتصالات الحديثة دورا كبيرا في تناقل الخبر والقسم العفري في الإذاعة الإثيوبية كذلك لعب دورا كبيرا في المناطق النائية التى لا تغطيها الشبكة شبكة الإتصالات فهرع المسلمون من مئات الكيلو مترات لحضور جنازته مستخدمين وسائل النقل الحديثة، هذا وتولى المسلمون أمره ولم يملكوا أسرته وأقاربه شيئا من أمره. وكان كل واحد منهم يعتبره أبا مما يدلك على أنه رحمه الله كان شخصية إسلامية واجتماعية فذة وأنه محل ثقة الناس وحامل لواء الشريعة فتولى المسلمون غسله وتجهيزه وتكفينه فلما فرغوا من ذلك حمل نعشه إلى مصلى الجنائز قرب مقبرة (حِغِّلتا) شرق مدينة أركودي وسط أجواء من الحزن الشديد على فراقه بين الكبار والصغار فصلى عليه آلاف المسلمين الذين جاءوا من كل حدب وصوب من علماء- وجلهم من تلامذته- ومسئولين حكوميين وأكادميين ورجال أعمال وعامة الناس، ثم ووري الثرى وذلك في ضحى يوم الثلاثاء الموافق للسادس من شهر ربيع الثاني من عام ثلاثة وثلاثين وأربع مائة وألف لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أي بعد يوم من وفاته رحمه الله ورضي عنه عن عمر ناهز الثامنة والسبعين عاما؛ قضى خمسة عقود منها في خدمة الإسلام والمسلمين من دون كلل ولا ملل وجاء عشرات الآلاف من الناس لتقديم التعازي لأسرته وأقاربه وانهالت الإتصالات ورسائل نصية من هنا وهناك وكلها تحمل مشاعر طيبة وأخوة صادقة فما تسمع أحدا إلا يثني عليه ويذكر محاسنه ويجعله من أهل الجنة حسب ظنه وكان رحمه الله قد رزقه الله القبول في الأرض وحب الناس له سواء في ذلك من رآه ومن سمعه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فما يسمعه الناس في بيت إلا هرعوا إليه للسلام عليه والاجتماع به والاستفادة منه، أبغض رحمه الله الظهور فحالفه الظهور ولاحقه؛ وقد رحل الشيخ الإمام عبد الله محمد الأمين عن هذه الدنيا في وقت أحوج ما تكون الأمة إلى أمثاله الأعلام حماة الشريعةِ حيث تلاطمت أمواج الفتن وبدأ الناس يرفعون شعارات مستوردة من الماديين والإنحلاليين من قبيل (الحضارة والتحضر والتقدم والحرية) مقابل الانسلاخ من القيم الإسلامية النبيلة وظهر دعاة الضلال والإنحراف والتلاعب بصراط الله المستقيم بدعم مستفيض من وراء ستار والله المستعان و عليه التكلان، ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يذهب الشيخ على قدر ونبقى نحن في هذه الحياة الدنيا إلى قدر لا يعلم مداه إلا الله و الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض عليه وسمعت الشيخ عبد الجليل دردر أحد كبار تلامذته بعد وفاته بأيام وقد قام خطيبا في الناس يقول (( لولا هذا الرجل الميمون لما رفعت الأمة العفرية رؤوسها ولما عرفت حلالها من حرامها وما ميزت التوحيد من الشرك والبدع من السنة ونحن نسير أيضا على هذا الطريق المبارك الذي رسمه لنا شيخنا إن شاء الله تعالى)) وتحدث الشيخ أحمد سلا وهو من كبار تلامذته أيضا بمثل ذلك وعدد محاسن الشيخ. قيل في مثل هذا المقام تعز فلا شئ على الأرض باقيا ولا وزر مما قضى الله واقيا لا سابغات ولا جاءوا باسلة تقي المنون لدى استيفاء آجال ما حمّ من موت حمى واقيا ولا ترى من أحــــــــد باقـــيا فرضي الله عنه وغفر له جزاء ما قدم من خدمة للإسلام والمسلين ورفع درجته في المهديين ورزقه برد العيش في البرزخ آمين يا رب العالمين.
 أســـــــــــــــــــــرة الــــــشـــــيـــــــــخ: لقد رزق الله الشيخ العلامة عبد الله محمد الأمين – رحمه الله – أولادا فوق العشرة من ثلاث زوجات، فقد تزوج بالسيدة عائشة بنت حسين شيخ علي – رحمها الله – وهي تعتبر زوجته الأولى فأنجبت له اثنين هما الشيخ محمد والسيدة دسته وكلمة دسته تعني بلسان الحبشة نعمة أو راحة،ثم توفيت عنه و تزوج بالسيدة عائشة بنت حسن وهي تعتبر أم أكثر أولاده وعاش معها إلى أن فارق الدنيا فأنجبت له 3 بنين و4 بنات وهم كالتالي: 1- الشيخ محمد طيب. 2- محمد سراج توفي صغيرا وكان قد سماه بشيخه المفتي محمد سراج رحمه الله. 3- يحي صاحب هذه الرسالة. 4- آمنة. 5- مكية الكبرى. 6- فاطمة. 7- أم كلثوم. ثم تزوج بالسيدة آمنة بنت المفتي محمد سراج وكانت قد تأيمت من شقيقه الأكبر الشيخ محمد طيب بن محمد الأمين رحمه الله فخلف عليها بعده فأنجبت له 3بنات هن كالتالي: 1- مكية الصغرى. 2- ظلالية. 3- مسعودة، وهي مقيمة في السعودية في منطقة جازان، وشاء الله أن يكون جل أولاده من الإناث وعسى أن يكون خيرا فإن ما اختاره الله للعبد خير مما يختار العبد لنفسه. اخوة الشيخ الشيخ عبد الله محمد الأمين واحد من أسرة كبيرة كانت تتألف من ستة أشقاء وأخ واحد غير شقيق وخمس شقيقات وهو الإبن الثاني للحاج محمد الأمين من أمه وهم كالتالي: 1- الشيخ محمد زينو بن محمد الأمين رحمه الله الأخ غير شقيق. 2- الشيخ محمد طيب بن محمد الأمين رحمه الله الشقيق الأكبر. 3- محمد جوهر بن محمد الأمين رحمه الله الشقيق الأصغر 4- الشيخ محمد نور بن محمد الأمين حفظه الله. 5- . محمد صادق بن محمد الأمين مات صغيرا. 6- النجاشي بن محمد الأمين مات صغيرا. وكانوا كلهم أهل دين وصلاح - بفضل الله تعالى-، هذا بالنسبة للذكور وأما بالنسبة للإناث فهن كالتالي: 1- زينب بنت محمد الأمين في قيد الحياة. 2- أم كلثوم بنت محمد الأمين . 3- اندرو بنت محمد الأمين. 4- وُرقو بنت محمد الأمين. 5- آمنة بنت محمد الأمين متوفية.

 وهكذا أتينا إلى نهاية الكلام عن سيرة علم من إعلام النهضة الإسلامية في الحبشة وسيرة واحد ممن نذر نفسه خدمة للإسلام والمسلمين ألا وهو فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الأمين الرايي الأركودي العفري، وحاولت في الحديث عنه قدر الإمكان أن آخذ منحى حياديا وأظن أني تحدثت عنه كتلميذ له وشاهد عيان وليس كابن قريب منه تأخذه عاطفة البنوة وفيما ذكرناه كفاية عما لم نذكره وفي الإشارة ما يغني عن العبارة كما قيل فأسل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يغفر لشيخنا الوالد ويرضى عنه ما قام به للإسلام والمسلمين وأن يجعل الأخرى خيرا له من الأولى -فإنه وبحق ما عاش في هذه الحياة إلا للإسلام- فإنه أرجى من يرجى كما أسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأسأله أن يستعملنا في طاعته وأن لا يخلع ربقة الإسلام عن أعناقنا وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يجعلنا مباركين أينما كنا وأن يسعدنا في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو خير مسئول وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. قال الشاعر: وإن تجد عيبا فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا. وقال آخر: كم من كتاب تصفحته وقلت في نفسي أصلحته حتى إذا طالعته ثانيًا وجد ت تصحيفًا فصححته تمت هذه الرسالة بحمد الله بقلم مؤلفها أبي عبد الله يحي بن الشيخ عبد الله محمد الأمين الحميدي العفري صباح يوم الخميس الموافق 27/2/1434هـ والمصادف ل 10/1/2013م. (أركودي منطقة عفر إثيوبيا.) للإستفسار تواصل مع المؤلف من خلال الهاتف المحمول رقم 0914674597 أو من خلال صفحته الشخصية في الفيس بوك باسم Yahya Ibn Abdullah

KO may yiqjibe ؟

1 comment:

  1. رحمه الله تعالى رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته

    ReplyDelete

IKOYTIINI GAR INKIH DAANAT LEM© ALI ABDALLAH 2014